0 تصويتات
في تصنيف اسئلة تعليم بواسطة (4.4مليون نقاط)
تعبير عن صنعاء

الخضراء كان الوقت صيفاً عندما دخلتها لأول مرة طفلاً في السادسة وعلى ظهر أحد الجمال التي تحمل - بالإضافة إلى أفراد الأسرة - اثاث المنزل القروي من فرش وسجاجيد محلية مصنوعة من صوف الماعز، لم يكن الطفل الذي كتبه يؤمنذ يعي معنى الفصول أو يدرك أسماءها، لكنه يتذكر الآن أن البطيخ بقشرتها وجوفه الأحمر الذي لم يسبق أن رآه أو ذاقه في قريته كان أول فاكهة قدمت للعائلة القادمة من الريف وهي في ذلك الحين فاكهة صيفية قبل أن تنتشر وسائل المواصلات وتستقبل العاصمة منتجات المحافظات ذات المناخات المختلفة. الإشارة تستدعي القول أن صنعاء رغم تمايز فصولها الأربعة ذات مناخ معتدل جميل، تقترب درجة حرارة الشمس في نهارها الشتوي من درجة حرارتها في الصيف وربما تقل صيفاً بسبب الغيوم والأمطار التي تهطل كثيراً في شهور الصيف إن المدقق في جغرافية المكان يلحظ أن صنعاء تقع في محيط هو الأعلى في كل الجزيرة العربية، كما أنها مبنية على هضبة ترتفع عن الوديان التي تحيط بها وأن الزائر عندما يدخلها من أي الجهات يشعر أنه يعلو لا سيما حين يكون قادماً من جهة الجنوب، ولا يصل إليها إلا بعد أن يتسلق الجبال والأكام، ومتى دخلها يشعر انه اقترب من السماء، وأن في إمكانه إذا ما صعد أحد الجبال المحيطة بها أن يلمس السماء بيده وأزعم أن كل ما في اللغة من مفردات وما في الكتب من عبارات لا تستطيع أن ترسم أبعاد الدهشة التي تملكتني عند رؤية صنعاء عن قرب وهي مغمورة بشمس الظهيرة وما يتدفق على واجهات المنازل من كميات الضوء لحظتها.

كانت المآذن المستقيمة البيضاء ونوافذ البيوت المَطْلِيَّة بِخُص يُشبه الفضة في أزهى حال من التوهج واللمعان لن أتكلم كثيرا عن صنعاء الحديثة المدينة التي أكلت الحقول المحيطة بها، والتي لا تزال تتمدد وتترهل بل سأكتفي بالكلام عن صنعاء القديمة والضواحي مدينتي الصغيرة النائمة خلف سورها الطيني العتيق والمَحْمِيَّة ب غيمان الجبل المطل عليها من الشرق الذي اعتدى الاحباش على اسمه القديم واختاروا له اسما آخر هوه نقم، وإذا كنا لا نمتلك من الشواهد ما يكفي لإثبات التسمية القديمة و غیمان فإن الدليل التاريخي الوحيد أن الأحباش هم الذين أطلقوا عليه اسمه الحالي انتقاماً منه فقد كانت كهوفه مأوى للمقاومة الوطنية التي أرهقت ذلك الاحتلال وتحيط بصنعاء سلسلة من الجبال العالية والمنخفضة لكن أو غيمان يظل أبرزها وأهمها بوصفه الحارس التاريخي الذي يحتوي صنعاء من جهة الشرق ويبدو في مكانه بعد أن تجعدت ملامحه کشيخ عجوز يحنو على أبنائه وأحفاده وبعد أيام من استقرار العائلة في منزل صنعانى لا تختلف مواصفاته عن بقية المنازل التي يقف إلى جوارها أو يتداخل معها في اصطفاف أو تلاصق فريد.

بدأ شَغَفَ غامض يقودني يومياً إلى سطح هذا المنزل كلما جاء ضيوف أو انشغل أفراد العائلة يشؤونهم الخاصة لأمارس دهشتي الطفولية، يَشُدني منظر المآذن وسطوح بعض البيوت العالية، وتثيرني الجبال المحيطة بالمدينة من قرب أو من بعد لم يكن صعودي إلى السطح يرتبط بوقت معين وإن كان وقت الظهيرة المشبع بالضوء هو الوقت الأكثر إثارة، كما أن لوقت الغروب وإثارته الخاصة عندما يبدأ اللون البنفسجي يلف المدينة وتبدأ السحب البيضاء تأوي إلى ما وراء الجبال وفي زمن لاحق، حين اكتمل الوعي بجمال المكان وبهاء العمارة، وأخذ الشعر يقود الشعور للإحساس ببساطة صنعاء وعمق جمالها.

اختزنت الذاكرة والبصر ما تزخر به المدينة من شواخص ثَرِيَّة فهنا حفرة ( القُلَّيس ) التي يقال : إنَّها بقايا الكنيسة بناها أبرهة ، وهنا مسجد ( أروى) الذي يعود تاريخه إلى العام السادس الهجري الموافق ٦٢٧م . وهناك الحمامات التي تسمى بالتركية وهي عربية الأصل، ولا تزال مستخدمة، فيها أيام خاصة للرجال وأخرى للنساء وكلما ضاقت أزقة صنعاء القديمة انبثقت ساحة واسعة مخططة بحساب لتخدم البيوت المحيطة بها بينما يُطل عليك من وراء كل مجموعة من الازقة بستان صغير يسمى بـ المقْشَامَة يُسقى من مياه المسجد، ويستفيد من زرعه الجميع. ولعل سحر الإضاءة في البيت الصنعاني يتخلى بشكل معاكس؛ ففي النهار يستمتع الجالس داخل البيت بضوء ملون تنله النوافذ المصممة بشكل هلالي، وبقطع متعددة الألوان من الزجاج أما في الليل فيكون الضوء الساحر الملون تحت نظر المارة الذين يرون النوافذ من الخارج، ومن العجيب أن النوافذ المخرمة، أو المشربيَّات التي يستعمل بعضها كثلاجات طبيعية التبريد الماء تستدق وتصغر حتى يكون بعضها مثل الشاقوص، نافذة بحجم الكف تنقية الهواء وحين أعود بذاكرتي إلى الماضي في محاولة لاسترجاع علاقتي بصنعاء تتراءى لي هذه المدينة من خلال ثلاث حالات من الدهشة الحالة الأولى هي تلك التي ارتبطت باللقاء الأول وقد تم الحديث عنها في القسم الأول من هذه المقالة، أما الحالة الثانية : فكانت عند عودتي إليها في أواخر الخمسينيات بعد غياب دام سبعة أعوام.

وأذكر أنني رجعت إليها ذات مساء، كانت نائمة تحت عباءة الليل، وقد حالَ سُورها الطيني بيني وبينها إلى ما بعد مطلع الفجر، وانفتاح الأبواب التي كان قانون الخوف على المدينة وأهلها يقضي بإغلاقها من قبل الغروب إلى ما قبل الشروق - وفي هذه العودة انتعشت ذكريات الطفولة مجدداً، وخرجت من مخابئ الذاكرة، ولما كنت قد بدأت كتابة الشعر، فقد زادت علاقتي بالطبيعة وبالمدينة إعجاباً وحميمية، فاخترت رابية تقع في الجهة الشرقية من المدينة تسمى ظهر حمير لكي استوعب من هناك منظر المدينة وما تَحْشُده من جماليات المكان بأقسامه الثلاثة، كما كان حتى منتصف الستينيات القسم الأول، وحيّزه المكاني صنعاء القديمة بحاراتها ومساجدها وبساتينها وأسواقها، والقسم الثاني يضم باب السبح وبدر العزب بحدائقه الواسعة، وقصوره القليلة، والقسم الثالث يشمل منطقة و القاع، التي كانت تتألف من الأحياء الخاصة باليهود قبل أن يرحلوا عن البلاد، ويبيعوا منازلهم وممتلكاتهم كاملة كنت باب اليمن في الجزء الجنوبي ثم باب الشمالي عند نهاية المدينة غرباً، يقابله باب البلغة جنوبا، ثم باب و القاع المفتوح على الجهة الغربية وهناك باب آخر اسمه باب و استران، ومعناه الباب المستور الشقاديف في وسط المدينة شمالاً، يقابله باب السبح جنوبا، وباب الروم في الجزء ويحسبه بعض الناس أنه من أبواب المدينة في حين أنه ليس كذلك، ويقع في شرق المدينة، ويتبع قلعة تغمدان التي أصبحت في العهد العثماني قصراً للسلاح ، وهان الباب مغلق وخاص بالقلعة، ولا يعد من أبواب المدينة، ولم يفتح في تاريخ اليمين الحديث سوى مرة واحدة عندما اتخذ الإمام الشهيد عبدالله الوزير القلعة مقرا لحكمه الذي لم يدم سوى ثلاثة أسابيع، اما الحالة الثانية فهي خليط من الدهشة والحسرة تعود إلى أواخر السبعينيات عندما رجعت من القاهرة بعد غياب دام اثني عشر عاما كانت المدينة قد بدأت في الترهل، إن لم تكن قد ترهلت ،فعلا ولاني اخترت الإقامة في حي جديدة فقد صدمني كل شيء فيه.

وحزنت أشد الحزن لانتشار بيوت الإسمنت وما تتركه من ملامح المدينة الهجين. لقد تبددت الصورة المرسومة في الذاكرة لصنعاء، وتكسرت امام عيني، ولم يبق في هذه الأحياء الجديدة سوى شوارع مكتظة بالناس، وهذه الشوارع في الوقت نفسه أسواق نافرة ومنفرة يجتمع فيها بائع الذهب والمجوهرات ببائع الفحم والأحذية، وبائع العطور ببائع اللحم والسمك. أين هذا التنافر البغيض من صنعاء الذاكرة، حيث الأسواق المستقلة البعيدة عن الأحياء السكنية، وحيث يوجد سوق خاص لكل سلعة ؟! فهناك سوق للزبيب وسوق للفضة وسوق للقماش وآخر للعطارة، وأسواق للحدادة، والتجارة والصناعات الحرفية.

إحساس فظيع بالتشويه الذي أصاب المدينة، بيوت الإسمنت الباهتة بدلاً . البيوت التي تتعانق فيها الأحجار بالآخر والبناء العشوائي يزحف تماماً على الحدائق والبساتين بعد أن التهم كل الأراضي الزراعية، التي كانت تحيط بالمدينة، وتم القضاء نهائياً على الينابيع المائية التي كانت تسقي جزءاً من المدينة، وتخترقها متجهة إلى

الضواحي الشمالية الغنية بالاشجار، وخاصة أشجار الورد لكن القوة المدمرة لم تكن قد اقتربت من المدينة القديمة من صنعاء الصغيرة، وعندما ذهبت لزيارة منزلنا القديم وجدت الأحياء لم تتغير، والأسواق كذلك، وحتى الناس لا يزالون يعيشون في سكينة وهدوء يحبون بعضهم، ويتعاطفون في السراء والضراء، وهذا ما جعلني دائم الحنين إلى السير فيها، والتنقل في أحيائها، وكانني اكتشفها لأول مرة .

لقد تقادم الدهر بصنعاء القديمة، لكنها لا تزال تقف في وجه الزمن حتى ! اليوم بمعمارها وجمالها الطبيعي تتحدى صنعاء الجديدة، وتزهو بمنازلها التي كلما تصدعت أحجارها، وبهت لون آجرها او اختقی زادت جمالاً ولقاء، وزاد عدد عشاقها، وتكاثرت أسراب السياح المفتونين بالطابع المعماري العريق، والحالمين بقنادقها التقليدية المسماه بالسماسرة، ليذوقوا الحظات الراحة في مدينة لا يتسلل إليها الخوف وليس فيها مخابئ ولا خوار سرية كبعض المدن القديمة، فهي واضحة شفافة، ما يكاد يختفي قنديل النهار الشمس حتى تضىء قناديلها الليلية الصغيرة التي تطل من وراء العقود الزجاجية الملونة، فتبعث الراحة والأمن إلى نفوس المارة، وهواة النزهة المسائية في شوارع لا تعرف الانكماش، أو التمدد بفعل البرودة والحرارة . وحين نوارب النساء النوافذ الخشبية صباحاً، تدخل الريح بنعومة غير شقوق هذه النوافذ، ويسترجع الناس صدى أغنيات كأنها قادمة من الماضي البعيد.

 ويصغون إلى موسيقى مترعة بالشجن العميق، وبقايا حكايات ترجع في أصولها إلى القدم الأزمان. ومن المؤكد أنه ليس للجمال شكل ثابت متفق عليه، ولا هيئة خاصة، وإنما لكل إنسان ذوقه الخاص بتحديد أبعاد الجمال، هكذا يقولون، لكن الجمال الذي تتمتع به هذه المدينة يؤكد أن هناك قاسماً مشتركاً تلتقي عنده نواميس الحواس الحقيقية. وإذا كان لكل جمال أسراره الخاصة، فإن البساطة هي سر الأسرار في جمال هذه المدينة البديعة التي تجمع بين سحر الواقع وجمال الاسطورة.

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (4.4مليون نقاط)
 
أفضل إجابة
تعبير عن صنعاء

اسئلة متعلقة

مرحبًا بك إلى بيان العلم ، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...